بير الشراكة- بين الجفاف والكرم في العيد

المؤلف: علي بن محمد الرباعي09.08.2025
بير الشراكة- بين الجفاف والكرم في العيد

في بئر الشراكة، كان أبو مسفرة يسحب الدلو الأول، وبمجرد وصوله إلى الحافة، تأهب لإفراغه في القربة، لكنه تفطن لوجود شوائب وطين، فسكبه في قناة مائية تصب في حوض مائي قديم، تشبه قشرته الخارجية وجه شيخ قروي طبعت تجاعيد الزمن القاسي آثارها عليه. ثم سحب الدلو الثاني، الذي كان أقل ماء وأكثر طيناً من سابقه، فرفع بصره نحو الغيوم المتفرقة في السماء، كأنها قطعان ماشية متوزعة في مرعى واسع. تنهد أبو مسفرة من أعماق قلبه، وقال بحسرة: "تستعد الرحمة لتنهمر، ثم تنصرف، لقد سقيت أراضي الفساد، وتركت ديار الحسد عطشى."

بدأت تراوده فكرة بيع الثور، فالأعلاف أصبحت نادرة، ولكنه كان على ثقة بأن فرج الله قريب، وأن خزائن رحمته لا تنفد. فجأة، صاح بصوت عال: "أخاف أن يجف البئر، وأن ينزلق الحبل من يدي." وإذا بصوت يأتيه من أعماق البئر يرد عليه: "والله ما مللت من عشرته، ولو مل سيدي." فارتعد أبو مسفرة خوفاً، وسمى بالرحمن، وطوى الحبل بسرعة على ذراعه، وفك البكرة، وأمسك بالقربة والدلو، وغادر المكان مسرعاً، تاركاً زنوبته عند حافة البئر. وبينما يبتعد عن الحقل الشاحب، اخترقت شوكة قدمه، فتذكر حذاءه، ولكنه تردد في العودة لأخذه. نزع الشوكة من قدمه، وبل إبهامه بريقه الجاف، وفرك مكان الجرح. شعر بحرارة شمس الظهيرة تلفح وجهه، فبدأ يغني: "أحرقتني الشمس، أين أجد الظل؟ تحت ريش الصقر أم الحدأة؟"

تنقسم القرية إلى عشائر، وكل عشيرة تتكون من سبعة بيوت. وقرب حلول عيد الأضحى، أخذ أبو مسفرة يفكر في وضع عشيرتهم المادي المهتز، وتساءل في نفسه: "من أين سيأتي هؤلاء القوم بالمال للاحتفال بالعيد، وكل واحد منهم أفقر من فأر المسجد؟" ثم تذكر زوجته المريضة. مر بمنزل زوج ابنته، وهو رجل بخيل، فاعتذر له عن تقديم فنجان قهوة قائلاً: "ابنتك في الطابق السفلي تساعد البقرة على الولادة، وأنا صائم وأريد أن أقضي الظهيرة في راحة!" فطلب منه أبو مسفرة أن يملأ قربته من الماء المخزون، فاعتذر الرجل مرة أخرى، لأن الماء مخصص للشرب فقط، والباقي لعمه، الذي سيفعل المستحيل للحفاظ عليه. فتمتم أبو مسفرة في نفسه بغضب: "ليتك تغرق أنت وعمك في هذا الماء الآسن، وتنام نومة لا تقوم منها أبداً." ومضى في طريقه، لا يعلم إلى أين سيقوده.

كانت هناك عشيرة أخرى قد اغتنت بعد فقر مدقع، فوعدت شيخ القبيلة بتقديم عجل ثمين كهدية للعيد، مقابل أن يلتزم الحياد في الصراع الدائر بين العشائر. حاول أبو مسفرة إقناعهم بإشراك عشيرته الفقيرة في احتفالهم، فرفض الفقيه بشدة، معتبراً أن ما يحل لهم لا يحل لأهل القبور. فغضب أبو مسفرة ورد عليه: "تستحق أنت وأبوك جهنم وبئس المصير، يا عديمي المروءة." وأضاف: "لقد سئمنا من التفاخر الكاذب. والله يمنحني القوة على مواجهة كل من يعتدي علينا."

بدأت كل عشيرة تجهز أدوات الذبح وملابس العيد، واختارت أضاحيها. وقامت السيدات بطلاء ظهور وجباه الأضاحي من الثيران والخرفان بالحنّاء. أما "عشيرة المستضعفين"، فقد احتارت في كيفية توفير أضحية لعيدها، وكادت تعلن عجزها. فقال أحدهم بيأس: "القرية تحتفل وتفرح بقرابينها، ونحن سبعة بيوت لا نملك القدرة على تدبير ثور أو بقرة." فأجابه أحكمهم: "الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وحالنا لا يخفى على أحد."

تمنت بقية العشائر أن تبقى البيوت السبعة بدون أضحية، بدافع الحسد والتشفي، لكي يتصدقوا عليهم لاحقاً ويسخروا منهم. مع العلم أن أهل القرية لم يعرفوا الشبع إلا في بيوت أجدادهم القدامى، وتلك الأيام دول بين الناس. ولأن أبا مسفرة تربى في بيت كرم، ورأسه مليء بالشهامة، قال لأبناء عمومته: "عسى أن يكون ثوري (حبيش) فداء لكم، تحتفلون به بالعيد. رزقي ورزق عيالي على الله وعليه. ولكن إذا فرجها الله علي، فلي حق عليكم بتعويضي بثور بدله." فتهللت وجوههم فرحاً، واندفع كل واحد من كبارهم ليقبل رأسه تعبيراً عن شكرهم، وقالوا: "والله لن ننساها لك، فأنت صاحب فضل علينا وعلى عيالنا."

تآمر (سريقان) و(بريقان) على حبيش، وأقسما ألا يدعوه يفرح به، وقرروا سرقة الثور قبل العيد بليلتين، وبيعه على التجار العابرين من أهل البادية. قال سريقان لبريقان: "ضع قليلاً من حوكة (أُمّ مسفرة) على الثور، فإذا شم رائحتها سيمشي معنا بسهولة. وسنلطخ أنفسنا بالفحم، ونرتدي عباءات قديمة، وإذا لحقنا أحد سنخلعها ونتظاهر بالرقص." سروا عليه في منتصف الليل، وفتحوا باب الإسطبل واستاقوا الثور. سمع أبو مسفرة ضجة، فتناول عصاه، وهتف: "ثوري وأنا أبو مسفرة!" فشعر اللصان أن أحداً يتعقبهما، فربطوا الثور في شجرة سدر مجاورة، واختبأوا بين شواهد القبور. وعندما اقترب منهم أبو مسفرة، خرجوا عليه فجأة، وهم يرتدون العباءات ويتراقصون، فتعثر أبو مسفرة، وسقط أرضاً، وشعر بألم حاد في بطنه. احتفلت القرية بالعيد، ورفيقهم يتقلب في فراش الحمى، وكلما زاره الأقارب يسألونه: "ما بك يا أبا مسفرة؟" فيرد: "جن المقبرة." وفي اليوم الثالث من العيد، عرفوا ثورهم في المرعى، فأخبرته زوجته، فشفيت الحمى، وقام يردد: "يا حافظ يا عقايل الله." وصاح في عشيرته: "هاتوا السكاكين." طرحوا الثور أرضاً، وبدأ يخور مستغيثاً بصاحبه، وأبو مسفرة يردد بحسرة: "ذقها ليته أشكل ما عوّدت إلا لها."

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة